السحر والغموض فى عالم الفنان محمود سعيد :
ولد محمود سعيد بالإسكندرية ورغم تخرجه من كلية الحقوق الفرنسية سنة 1919 إلا أن ميله للفن جعله يتنقل بين مراسم الفنانين فى الإسكندرية وأكاديميات الفنون فى الخارج حيث اعتزل وظائف القضاء بعد أن أصبح مستشاراً وتفرغ للفن عام 1947.
والواقع أن علاقته بالفن لم تنقطع أبداً فاستمر من خلال الدراسات الفنية الحرة وأيضاً من خلال زيارته لمتاحف أوروبا، فلم يتوقف عن الرسم والتصوير وإقامة المعارض الجماعية، ويعتبر من رواد الفن المصرى الحديث، وأول من حصل على جائزة الدولة التقديرية من الفنانين التشكيليين المصريين، وتوفى فى الإسكندرية فى إبريل عام 1964.
محمود سعيد والفن
مرت تجربته الفنية الممتدة بعدة مراحل: أولها السنوات العشر الأولى ما بين عامى 1927- 1937، وتمثل قمة اعماله المتنوعة المنطلقة فى غزارة، ومن أجمل لوحات هذه الفترة "جميلات بحرى" و"ذات الجدائل الذهبية" تلك الرائعة التى تمثل مرحلة هامة فى تاريخ فن التصوير المعاصر حيث الأجواء المعبرة والضوء الذى يشع من وجه الفتاة ذاتها، فيكتنف الوجه ضوء خاص يضيف للبعد المادى أبعاداً نفسية غامضة تحتوى على الكثير من الأسرار والدلالات الرمزية يضيفها من خلال بنائية تشكيلية متميزة تختلف عن النماذج التى أشتهر بها محمود سعيد مثل "حاملة القلل" و"الصيد العجيب" و"عقد المرجان" و"الصلاة" و"لوحة الذِكر" و"المدينة والعائلة".
فلوحه ذات الجدائل تمثل عالما من رؤى الفنان الخاصة، فهى عالم من الوجود الساحر.. كيانا ماديا يشع بضياء يثير دهشة المشاهد فهو لا يستطيع بدقة أن يحدد مصدره، ولتلك الفترة أيضاً لوحته للطفلة صافيناز والتى رسمها لأبنة أخته الطفلة الصغيرة صافيناز وهى تلهو فى حدائق بيت الأسرة فى جناكليس، وتبدو من خلال وجه ملائكى، وعيناها تحدقان فى الأفق البعيد، وهى لا تدرى ما تخبئه لها الأقدار عندما تكبر وتصبح الملكة فريدة - ملكة مصر.
وفى هذه المرحلة أيضاً قدم محمود سعيد مجموعة كبيرة من صور الشخصيات من خلال البناء والتكوين الفنى المتكامل وتتسم بالإمتزاج ما بين الأسلوب الواقعى والتعبيرى حيث تحمل الوجوه طاقات تعبيرية عالية، فالوجوه تمتد نظراتها إلى عالم يمتد إلى ما وراء الرائى، وأحياناً تبدو وكأنها تنفذ إلى داخلها أنها رؤية تذكرنا بالوجوه المصرية القديمة.
وفى لوحات فترة الخمسينات تتحول رؤى الفنان، فقد شهدت هذه الفترة تفرغ محمود سعيد للفن وانطلاقه للعالم الخارجى، فسجلت لوحاته عالماً ممتداً من رشيد إلى أسوان إلى مرسى مطروح والمنيا والبحر الأحمر ولبنان؛ بأسلوب شاعرى متميز مثلما نجد فى لوحة "النيل عند المنيا".
وفى مرحلة الستينات نجد رؤيته للأشياء وقد خطت لمرحلة النقاء، حيث التخلص من التفاصيل الزائدة، وتأمل الأشياء وصولا إلى جوهرها، مثلما نجد فى لوحاته التى تنتمى إلى هذه الفترة، حيث زار جزر اليونان وعبر عن الهدوء والصفاء والأضواء التى تشع من لون البيوت البيضاء، وتلك الروح التى تتسم بالفكر والتأمل والسكون الهادئ بعيدا عن العواطف المنطلقة والحركة المتأججة؛ وهذا هو ما يميز أعمال المرحلة الأخيرة، فقد أكد الأضواء والظلال على هذه الجزر الساكنة الهادئة.
أسلوب متميز
وتعكس تجربة محمود سعيد أسلوبه الواقعى المتميز والمعبر عن واقع الحياة السكندرية، كل أجزاء الإسكندرية .. الشاطئ، الباعة، بنات بحرى، المساجد، حلقات الذكر، المصلين، أولاد البلد.. إنها واقعية من نوع خاص، ينفذها بأسلوبه الخاص وألوانه التى تشع بالضوء من داخلها.
طابع متميز بالسحر والغموض هو عالم لوحات محمود سعيد وأشخاص لوحات محمود سعيد، وهذه المعالجة تكتسبها كل الأشكال على سطح اللوحة، سواء كانت أشكال إنسانية أو أشكال حيوانات، إذ انعكست ثقافة محمود سعيد الموسوعية على إبداعه الفنى، فامتزج بالأعماق، حيث يعبر عن الروح المصرية الحقيقية التى يعبر عنها بروح شاعرة وألوان جذابة تعبر عن عالم تعيشه وتتفاعل مع مشاهده من حولنا، ولكن جاء إلينا من خلال أعمال الفنان محمود سعيد محمد بخبرات ومشاعر تجعلنا نتمنى أن نعيش واقعنا الأصيل من خلال لوحاته، إنه نفس الإحساس بالأصالة الذى تستشعره بين صفحات روايات نجيب محفوظ؛ القاهرة الأصيلة، والإسكندرية الحلم والتراث والتاريخ.
محمود سعيد وبودلير
ينحدر الرسام محمود سعيد من عائلة ارستقراطية قديمة بالإسكندرية، وكان أبوه محمد باشا سعيد أحد رؤساء الوزارة المصرية فى العشرينات، والرسام محمود سعيد هو أيضاً خال الملكة السابقة فريدة الزوجة الأولى للملك فاروق، ولعلها ورثت منه هواية الفن وموهبة الرسم، وكان الرسام محمود سعيد؛ سليل العائلة الأرستقراطية قاضياً بالمحاكم المختلطة، ثم استقال فى الخمسين من عمره ليتفرغ تماماً لهوايته التى اخذت عليه كل حياته، وأصبح هذا الأرستقراطى العريق أشهر رسام للحياة الشعبية، وأجمل صور فى لوحاته الشهيرة المرأة بنت البلد، خصوصاً بنات بحرى، وقد اشتهر بيننا فى الحديث الشعبى عن المرأة الإسكندرانية أنها أكثر تحررا وجرأة من القاهرية بنت البلد، وقد يكون السبب هو البحر والهواء الطلق، وكنا نسمع فى شبابنا هذه العبارة الدارجة فى وصف "بنات بحرى" : مياه مالحة، وذيول شالحة، وعيون جارحة!!
أم حميدة .. الملهمة
أم حميدة هى الموديل الأسمر الشهير للفنان، ومصدر وحى لكل أعماله لبنات البلد وبنات بحرى البرونزيات اللون، المصريات الملامح، والطاغيات الحضور، والذى من أجل رسمه لهؤلاء الشعبيات ترك القصر ونزل إلى الشارع، متخليا عن كرسى القضاء، وهو الأبن المأمول فيه لمحمد باشا سعيد الذى رأس الوزارة قبل الحرب العالمية الثانية، واتجه محمود للفن بكل كيانه وطاقته الفنية والمادية، وبتوجهه هذا جعل محمود سعيد ابنة البلد منارة فنية فى عملقة منارة الإسكندرية الشهيرة، وكأنها منارة خرجت لتوها من ماء البحر لتضئ الفن المصرى بأكمله وقد عبقته رائحة اليود البحرية، لتكتسب عن طريق ابن الباشا صفة العالمية.. وهذه الوجوه الشعبية أكسبها محمود سعيد نبلا اقتنصه من طبقته الراقية فوق تلك الأجساد الضخمة فى رصانة وكبرياء.
هذا الفنان 1897-1964 الذى رحل يوم مولده "8 ابريل" عاش يرسم متأثراً بالمدارس الأوروبية التى شاهدها فى فرنسا أثناء دراسته للقانون، ومعجباً بفن عصر النهضة وكلاسيكيته.. ومتأثراً بالوجوه الاخناتونية القديمة، مع لفحة فرعونية قبطية أعطت لوحاته مذاق الخصوصية والتفرد ليخلد عشقه لبلده فى بناتها البحريات وصيادى السمك وجبالها ومناجم الفوسفات ورشيد ومطروح .. لكن تبقى بنت البلد هى تعويذته وتعويذة الفن المصرى بأكمله التى لا تضاهيها امرأة أخرى، وكأنها موناليزا الفن المصرى.
قالت ملهمته الست حميدة منذ سنوات: كنت سمراء جميلة حين رآنى البيه محمود، وكان عمرى 16 عاماً، ومعه أفنيت صباى على شغلى موديل خاص له، ودائماً كنت أحس بالفخر وسط ناسى لأننى كنت أرى نفسى فى لوحاته ست حلوة معرفش إزاى !!
وهذا الفنان الكبير تجاذبت حياته عدة خيوط أصابته بالتوتر بين عمله كقاضى وبين ممارسة فنه، خاصة أن لوظيفته مسئولية اجتماعية ونفسية ثقيلة، وهذه المسئولية نراها انعكست على فنه، إضافة إلى تمزقه بين تقاليد الأسرة الأرستقراطية العريقة وبين بنات بحرى اللائى اجتذبنه بما يمثلن له من قاع المدينة الشعبى، محققا فى لوحاته فكرته الخاصة عن الشخصيات وهو القاضى الذى اعتاد تفحص الوجوه وقراءة علم النفس، مما ساعده على الإحاطة بالتركيبات النفسية المتنوعة للبشر، فأبدع لنا لوحات هى درة الفن المصرى، وهى نقطة تحول فى تاريخنا عندما أخرج الفن التشكيلى من مجرد تسجيل نزعات الأرستقراطية السطحية إلى النظر للإنسان أيا كان بدلالاته النفسية والإنسانية.
ومن أسماء لوحات محمود سعيد قد ندرك من هو فنان الإنسان المصرى البسيط مثل:
الدراويش. ذات العيون العسلية. أمام الدوار. المدينة. * الصلاة. بنات بحرى. * المقرئ. حاملة البلاص. حمام الخيل. رشيد. سيدة مصرية. بنت البلد. ذات الثوب الأزرق. صيد فى زوبعة الكورنيش. ذات الجدائل الذهبية. الصيد السحرى. افتتاح قناة السويس. الذكر. * الدفن. الموت ... وغيرها.
الأربعاء مارس 21, 2007 3:05 pm
